الدوامة
[الدوامة ]
تأليف. شحات خلف الله عثمان
**********
مروج خضراء وحديقةحافلة بأشجار الثمار الطيبة ليمون وجوافه وبرتقال وعنب وتين ومنزل ريفي بالطوب المسلح عليه شعارات الحج المعروفة ورسم الطائرة التى تعبر عن رحلة الحج العظيمة الى الديار المقدسة .
وبجوار هذا البيت العديد من البيوت لا تختلف كثيراً عنه فى الوصف فقد تشابهت الملابس والأشكال وربما الأختلاف الوحيد فى القلوب وما تحمله من أولويات وأهتمامات .
يقف هناك ذلك الكهل العجوز ذا البشرة الحنطية والشعر الأسود المسرطن بالخصلات البيضاء وهو يرتدى الملابس الصعيدية التى يتم تسميتها الجلابية البلدي التى كانت دوماً له رمز على التمسك بالعديد من التقاليد والعادات التى لا يغيرها تعليم جامعي أو أرتداء ارقى الملابس الحديثة والماركات العالمية،ويتسأل هل أنتهي الأمر هنا أم ما زال هناك بقية تستحق المجازفة ؟!
بينما يتسأل هل أنتهي الأمر هنا أم ما زال هناك بقية تستحق المجازفة ؟!
وإذا به يسمع ضجيج أصوات تأتي من بعيد وعويل النساء وصراخهن يعلوا شيئا فشيئا فيلتفت يمينا ويسارا للبحث عن مصدر الصوت فيجد الكثير من الأشخاص ترك المعوال الممسك به وتوقفت المحاريث البلدية عن العمل والتقطت الأبقار أنفاسها فى لحظة ذهول لسماع أصوات العويل ويتم تحديد مصدر الصوت من احد المنازل القريبه ويتجه الجيران لمعرفة سبب هذا الصوت
وما هى إلا لحظات وقدأرتفع صوت مكبرات الصوت فى المساجد فى توقيت واحد غير توقيت الأذان (أنتقل الى رحمة الله تعالى فلان بن فلان وستشيع الجنازة فى تمام الساعه .... والعزاء على المقابر ) وهنا تم اكتشاف سبب العويل والصراخ وأصأبت ذلك الكهل العجوز قشعريرة وأخذ يقلب كفيه غير مستوعب لفكرة أنتقال تؤام الروح فى حياته التى عاشها بعيداً عنه وما بقي له معه سوى ذكريات الحنين وكانت الدموع تجري على وجنتيه أنهارا وهو يسير بإتجاه بيت الجيران يقدم أحدى ساقية وتلتف بالساق الأخرى ..
ووصل الى البيت وهرعت الخلائق الى المنزل وأصطفت الرجال أمام البيت فى طوابير عريضه وهم الشباب بتجهيز الحفار الذى يحفر القبور والمغسل الذى يقوم بتغسيل الميت وتتوافد النسوة الى المنزل وهى تطلق صراختها تعبيرا عن مواساة زوجة المتوفي وتمر الدقائق ببطء شديد وتتوافد السيارت التى ستقوم بتوصيل المتوفى والمشيعين الى دار الحق وحانت اللحظة الحاسمة وتم وضع المتوفي فى الكرب ( صندوق خشبي يوضع فيه جثمان المتوفي ) وتم وضعه فى السيارة الأمامية وأمتلئت بقية السيارات بالمشيعين للجنازة وتولى بعض الشباب مهمة منع النساء من الخروج امام باب المنزل وسارت السيارات فى مشهد مهيب كان يتقدمه المتوفي وذلك الكهل صديق العمر ممسكا بهذا الصندوق الخشبي منتحباً ومكلوماً لفراق الصديق ويتنازع داخله مشاعر مختلفة بين الصبر وبين ذلك السؤال الحائر فى ذهنه هل أنتهي الأمر هنا أم ما زال هناك بقية تستحق المجازفة ؟!
فقد مات فلان بن فلان صديق العمر وبدأ يعود الى الوراء فى بداية عمره وكأنه أمام شريط سينمائى حاضر بكافة تفاصيلة الدقيقة ......
بينما هو ممسكا بذلك الصندوق الخشبي الذى يحوي رُفـات الصديق السائر فى موكب مهيب حيث يقف له الجالس ويتوقف السائر انتظارا لمرور الضيف المغادر وذلك الكهل غارقا فى شلال المياه المالحة المنهمرة من عيناة على الفراق حتى تخضبت اللحية وأبتلت الملابس وفجاءة تتوقف السيارة ومن خلفها العشرات من السيارات أمام المسجد المجاور للمقابر ويتم التوافد على السياره من قبل الشباب ذوى القدرة الجسمانية والأقارب ويحملونه الى المسجد ليصطف الإمام ومن خلفه المصلين الراغبين فى إغتنام الأجر فى صلاة لا ركوع لها ولا سجود واربع تكبيرات دعوات للراحل ودعوات للاحياء والصلوات الإبراهيمية والتشهد والسلام ما ايسرها من صلاة وما اكثر اللاهين عنها حديث حال الإمام الذى لاحظ ان الكثير من المشيعين اصطف فى الخارج ولم يدخل باب المسجد .
أنتهت الصلاة وتم حمل الصندوق الخشبي سيراً على الأقدام حتى توقف امام حفرة من الحفر وهناك من ينتظر بداخلها لتحرير المتوفي من
دنس الدنيا الى حياة برزخيه قد تطول أو تقصر لكن اليقين انها قد تكون طريق للجنة أو طريق للنار بعد سؤال الملكين من ربك وما دينك وما أسم النبي الذى بعث فيكم أجوبتها سهلة ربما ... لكن لن تكون سهله على اللاهين البعيدين عن الدرب القويم وفى زاوية الحفرة يقف الصديق مستقبلا رفيق العمر فقد كان معه فى البدايات وها هو فى اخر النهايات وبداية البدايات ايضا ويتم وضع الجسد ويتم شق الكفن واللحد ويخرج (الحفار والصديق والأبن الأكبر للمتوفى من تلك الحفرة ) ويبدأ الحفار فى أغلاق باب الحفرة بمهنية وحرفية ممتازه توارثها عن الأباء والأجداد حتى لا يكون هناك متنفساً يلج من خلاله الدواب او الهوام او الحيوانات وكذلك رائحة التحلل وعند أخر طوبه يصدح بصوت عااال (وحدووه - الفاتحة لمن سبق )....
تنهمر الدموع بالعيون وتلهج الأنفس بسورة الفاتحة ونطق شهادة التوحيد فى لحظة صمت وكأن على الرؤوس الطير وينتهي المشيعين من القراءة ويتم اصطفاف الأقارب فى طابور لإستقبال المشيعين ويمسك الأبن الأكبر ذلك الكهل ويقول هيا يا عماه قف معنا فقد كنت معه فى حياته وكان يقول فلان بن فلان هو الصديق والرفيق كونوا بالقرب منه ووقف معهم فى ذلك الطابور وهو يبكي ويتلقي التعازي (البقاء لله - شد حيلك - سبحان من له الدوام - البقية فى حياتك رغم انه لا بقية فقد استوفاها صاحبها ) وانتهي المعزين وعاد الكهل العجوز الى الحفرة التى حوت الصديق ورفيق العمر مرة أخري
جلس الكهل بجوار قبر الصديق والدموع تنهمر وهو يلملم ذرات التراب والحصي على فوهة القبر ويبكي بكاء شديدا ويقول يا رفيق العمر أنت الأن يتم سؤالك من ناكر ونكير من ربك وما دينك وما اسم الرسول الذى بُـعث فيكم قل يا صديقى. ربي الله وديني الأسلام ورسولي محمد صل الله عليه وسلم ولا تجزع فكم مشينا سويا فى غسق الليل و الى المساجد وكم صلينا وكم ساعدنا الفقراء فى حياتنا وإن كانت أخطائنا كثيرة فربنا عفور رحيم ووعدنا بالجنة إن نطقنا لا اله الا الله خالصة من قلوبنا وما أشركنا أحداً فى عبوديته .
يا صديقي إنى أدعوا لك بالثبات لقد سبقتني وإني بك لاحق وهذا ديدن الحياة فالبقاء للواحد القهار وسأدعوا لك فى صلاتي ليل نهار إن شاء الله ولا تجزع على أهلك وفقدانهم سأكون لهم السند والعضد فقد كنت لى سند وعضد .
وبينما هو غارق فى تلك الكلمات إذا بيد تربت على كتفة فالتفت الكهل ويجد الإبن الأكبر للمتوفي يقول هيا عماه لنذهب الى البيت فلا بد إن هناك أناس تأتي الى الدوار للمجاملة .....
ويقف الكهل متأبطاً يد الأبن الأكبر ويقرأن الفاتحة على روح المتوفي ويسيران الى البيت وعند وصولهم جلسوا فى الدوار [ قاعة كبيرة فى الأرياف تقام فيها المناسبات السارة والحزينة وهى دوما يجتمع فيها العائلة ] وما هى الا لحظات وقدم المقربين والأحباء وأعادوا التعزية وبينما هم جالسون بدأت النقاشات الجانبية فى الأمور الحياتية ( الأسعار نار - السياسة تعبانة - فلان اشترى وفلان باع) ..... الخ
وكأنهم منذ لحظات لم يكونوا فى المقابر ولم يودعوا راحل والأبن والكهل مضطرون الى التفاعل معهم حتى لا يشعرونهم بإنهم متجاوزين فى حقوقهم وبداخلهم نيران تغلي كنيران المراجل ......
وتمر الساعات وهذا يغدوا وهذا يروح ويتكرر سيناريو القادمين وسيتكرر لثلاثة ايام متتاليه حسب عادات الأرياف والقري والنسوة ايضا تتوافد الى المنزل الذى اعلن حالة الطؤاري ما بين تجهيز للقهوة والشاي للرجال والطعام وكذلك للنساء واصبح المأتم وكأنه كافتيريا واستراحة يهرع اليها الجميع تحت ستار المجاملات ....
أستمر الحال لمدة ثلاثة ايام متتاليه بنفس الأحداث والكهل فى استقبال الوافدين وبداخلة افكار وذكريات للراحل تجعله يتقطع إرباً إرباً عندما يري الشخوص لاهية بإمور الدنيا وقصصها التى لا تنتهي دون ذكر للمتوفي ورغم ذلك يحاول ان يتماسك أمام الأبن ليهدئ من روعة وحزنه على فقدان والده وفى ختام اليوم يذهب كلاً الى حال سبيلة ويهمس الإبن فى أذن الكهل. عماه لقد تعبت كثيراً طيلة الأيام الماضية منذ وفاة المرحوم هيا لتستريح فى منزلك فقد تركتهم وسأمر عليك غداً ان شاء الله لنتناقش فى بعض الأمور ....
ويؤمي الكهل برأسه بالموافقه ويذهب الى منزله ......
يسير الكهل الى منزله وذهنة شارد فيما جرى ولا يرى ما حولة صحيح العيون مفتوحه ولكنها لا تبصر شيئا ولكون الأقدام اعتادت الطريق فقد انتبة من لحظة الشرود وكان وقتها بجوار حديقة المنزل واتجه صوب الغرفة التى يلقى فيها باحمال جسدة الذى ظهرت عليه ملامح الإرهاق والتعب وقابلته زوجتة الحنون التى كانت دوماً تراه منحة السماء لها وتعويضها عن حرمانها من الكثير من النعم فقد كانت من أسرة كبيرة العدد ولم تنل قسطها مثل بقية الأقرآن فى المدن بوجه حائر بين ابتسامة اللقاء أو إظهار التعاطف ومواساة قرين روحها بفقدانه .
وقالت : بصوت يملؤة العطف يا أبومحمد هذه سنة الحياة وجميعنا ذاهب لا محاله فأصبر على أبتلاء فقدان الصديق .
وقال لها : كلنا لها أم محمد وأين نحن ذاهبون جميعنا سنلحق السابقين ولكنها عشرة العمر وتاريخ لا ينسي بسهوله .
سألها عن الأولاد والبنات وكيف حالهم فقالت له جميعهم بخير الحمد لله قاموا بالاتصال بي عبر الهاتف وأخذت تسرد التفاصيل فقد تكلم الأبن المقيم فى بلاد المهجر والبنت التى تزوجت فى مدينة أخرى والولد الأخر فى المدينة البعيدة وظلت تحكى وتحكى وهو ينتظر منها أن تنتهي ولكن هيهات فقد كان لسانها حبيسا طيلة ثلاثة أيام عندما كان فى بيت الصديق الراحل ، وقال لها هل جميعهم بخير ، قالت له نعم كلهم بخير قال لها الحمد لله يكفي الان فلست فى حالة لسماع المزيد من الكلام ، أحضرى لى حقيبتي السوداء فى الرف العلوى من الخزانه ، فقالت له حاضر وأحضرت أحد الكراسي لكى تقوم بالصعود عليه لإحضار الحقيبه ولاحظ للمرة الأولى أنها تعاني من عوامل الزمن فقد كانت حركتها بطيئة وضاعت الهمة والنشاط فى تلبية الطلب بسرعة .
وقال لها ما بكِ يا أم محمد ؟
قالت له : لا أدرى أشعر منذ فترة بإننى لست على ما يرام ولم أبلغك بالإمر حتى لا ينشغل فكرك ، فأنا أعلم ما تمر به فى الفترة الأخيرة وكأنك ترغب فى الأقدام على شئ ما ودائما شارد الذهن !
قال لها :كفاك لؤما يا أم محمد أنتى ما زلتى مثل القمر فى ليلة الرابع عشر فأبتسمت ابتسامة عريضة غير مصدقة لما تسمعة فقد تعود أبومحمد على جفاف اللفظ العاطفي وهى تعودت معه على منهج الحياة المعتاد بينهما .
قالت له أما زلت ترانى قمراً فى حياتك يا ابومحمد ؟
قال لها جهزى نفسك غدا صباحا للذهاب الى الطبيب لإجراء فحوصات حتى يطمئن قلبك، قالت له كعادتك دوماً تهرب من الكلام فلننتظر حتى يوم الجمعة فأبنائك وبناتك سيأتون لنا ليلة الخميس لقضاء السهرة ولا أريد أن ينشغل بالهم ، ولدى الكثير من الأعمال فى المطبخ ،.
قال لها حسناً هيا أحضرى لى الحقيبة وقامت بالصعود على الكرسي واحضرت الحقيبه من الرف العلوى وأعطتها له وقام بفتح الحقيبة ويفتش محتوياتها هذة عقود وهذه شهادات وهذه جوازات سفر وهذا البوم صور وقام بإخراج الألبوم من الحقيبة وأضطجع على جانبة الأيمن وبدأ فى إستعراض محتواة، وبينما يقلب فى الصور واحده تلو الأخرى وموقف تلو المواقف واذا بنغزات القلب ونبضاته تتسارع وتتسارع فقد كان حريصا منذ بداية مرحله الطفولة على توثيق لحظاته فى كل حالاتها وإذا بالدموع تنساب على وجنتيه ويشهق شهقة لو سمعتها ذرات الحديد لأنصهرت ولو شاهدتها الجبال لـَخَرْتْ من هول ما يشعر به ولما لا إنها لحظات الحشرجه وخروج الروح فقد حان وقتها واذا بإم محمد تهرع اليه وترى بعينها نهاية رجل كان حائرا وتقوم بتلقينه الشهادة.
وبينما يرى ابومحمد ملائكة الرحمة والعذاب يتذكر انه لم يجاوب على السؤال الحائر الذى كان يعانقه من لحظة الطفوله حتى لحظة الفراق الى متى ؟!
وتنطلق الروح لبارئها لها ما لها وعليها ما عليها
وتبقي الدوامه أسلوب حياة وقصة لن تنتهي ......ربما تجد من يكملها يوما بعد الرحيل
تعليقات
إرسال تعليق